الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مقدمة ابن الصلاح المسمى بـ «معرفة أنواع علوم الحديث» **
*1* روينا عن(أبي سليمان الخطابي) - رحمه الله - أنه قال بعد حكايته أن الحديث عند أهله ينقسم إلى الأقسام الثلاثة التي قدمنا ذكرها: الحسن: ما عرف مخرجه واشتهر رجاله. قال: وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء. وروينا عن (أبي عيسى الترمذي) رضي الله عنه أنه يريد بالحسن: أن لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون حديثاً شاذاً، ويروى من غير وجه نحو ذلك. وقال بعض المتأخرين: الحديث الذي فيه ضعف قريب محتمل هو الحديث الحسن، ويصلح للعمل به. قلت: كل هذا مستبهم لا يشفي الغليل، وليس فيما ذكره (الترمذي) و(الخطابي) ما يفصل الحسن من الصحيح. وقد أمعنت النظر في ذلك والبحث، جامعاً بين أطراف كلامهم، ملاحظاً مواقع استعمالهم، فتنقَّح لي واتضح أن (20) وعلى القسم الثاني يتنزل كلام الخطابي. فهذا الذي ذكرناه جامع لما تفرق في كلام من بلغنا كلامه في ذلك، وكأن الترمذي ذكر أحد نوعي الحسن، وذكر الخطابي النوع الآخر، مقتصراً كل واحد منهما على ما رأى أنه يُشكل، معرضاً عما رأى أنه لا يشكل. أو أنه غفل عن البعض وذهل، والله أعلم، هذا تأصيل ذلك وتوضيحه. وذلك غير مشترط في الحسن، فإنه يُكتفى فيه بما سبق ذكره، من مجيء الحديث من وجوه، وغير ذلك مما تقدم شرحه. وإذا استبعد ذلك من الفقهاء الشافعية مُستبعد، ذكرنا له نص الشافعي، رضي الله عنه في مراسيل التابعين: أنه يقبل منها المُرسل الذي جاء نحوه مسندا، وكذلك لو وافقه مرسل آخر، أرسله من أخذ العلم عن غير رجال التابعي الأول، في كلام له ذكر فيه وجوهاً من الاستدلال على صحة مخرج المرسل، لمجيئه من وجه آخر. وذكرنا له أيضا ما حكاه (الإمام أبو المظفر السمعاني) وغيره، عن بعض أصحاب الشافعي من أنه: تُقبل رواية المستور، وإن لم تقبل شهادة المستور، ولذلك وجه متجه، كيف وإنا لم نكتف في الحديث الحسن بمجرد رواية المستور، على ما سبق آنفاً. والله أعلم. (21) وجواب ذلك: أنه ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت: فمنه ضعف يزيله ذلك، بأن يكون ضعفه ناشئاً من ضعف حفظ راويه، مع كونه من أهل الصدق والديانة. فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر عرفنا أنه مما قد حفظه، ولم يختل فيه ضبطه له. وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك، كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ، إذ فيه ضعف قليل، يزول بروايته من وجه آخر. ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك، لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته. وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهماً بالكذب، أو كون الحديث شاذاً. وهذه جملة تفاصيلها تدرك بالمباشرة والبحث، فاعلم ذلك، فإنه من النفائس العزيزة. والله أعلم. (22) فمحمد بن عمرو بن علقمة: من المشهورين بالصدق والصيانة، لكنه لم يكن من أهل الإتقان، حتى ضعفه بعضهم من جهة سوء حفظه، ووثقه بعضهم لصدقه وجلالته، فحديثه من هذه الجهة حسن. فلما انضم إلى ذلك كونه روي من أوجه أخر، زال بذلك ما كنا نخشاه عليه من جهة سوء حفظه، وانجبر به ذلك النقص اليسير، فصح هذا الإسناد والتحق بدرجة الصحيح، والله أعلم. ويوجد في متفرقات من كلام بعض مشايخه والطبقة التي قبله،(كأحمد بن حنبل)، و(البخاري)، وغيرها. وتختلف النسخ من (كتاب الترمذي) في قول: هذا حديث حسن. أو: هذا حديث حسن صحيح، ونحو ذلك. فينبغي أن تصحح أصلك به بجماعة أصول، وتعتمد على ما اتفقت عليه. ونص (الدارقطني) في (سننه) على كثير من ذلك. ومن مظانه (سنن أبى داود السجستاني) رحمه الله. روينا عنه انه قال: ذكرت فيه الصحيح ومايشبه ويقاربه. وروينا عنه أيضاً ما معناه: أنه يذكر في كل باب أصح ما عرفه في ذلك الباب. وقال: ما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بيَّنته، ومالم أذكر فيه شيئاً فهو صالح، وبعضها أصح من بعض. قلت: فعلى هذا ما وجدناه في كتابه مذكوراً مطلقاً، وليس في واحد من الصحيحين، ولا نص على صحته أحد ممن يميز بين الصحيح والحسن، عرفناه بأنه من الحسن عند أبى داود. (23) وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عند ه، ولا مندرج فيما حققنا ضبط الحسن به على ما سبق، إذ حكى أبو عبد الله بن منده الحافظ: أنه سمع محمد بن سعد الباوردي بمصر يقول: كان من مذهب أبى عبد الرحمن النسائي أن يخرج عن كل من لم يجمع على تركه. وقال ابن منده: وكذلك أبو داود السجستاني يأخذ مأخذه، ويخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره، لأنه أقوى عنده من رأى الرجال، والله اعلم. (24) غير أن المصنف المعتمد منهم إذا اقتصر على قوله: إنه صحيح الإسناد، ولم يذكر له علَّة، ولم يقدح فيه، فالظاهر منه الحكم له بأنه صحيح في نفسه، لأن عدم العلَّة والقادح هو الأصل والظاهر، والله أعلم. وجوابه: أن ذلك راجع إلى الإسناد، فإذا روي الحديث الواحد بإسنادين: أحدهما إسناد حسن والآخر إسناد صحيح، استقام أن يقال فيه: إنه حديث حسن صحيح، أي إنه حسن بالنسبة إلى إسناد، صحيح بالنسبة إلى إسناد آخر. على أنه غير مستنكر أن يكون بعض من قال ذلك أراد بالحسن معناه اللغوي، وهو: ما تميل إليه النفس ولا يأباه القلب، دون المعنى الاصطلاحي الذي نحن بصدده، فاعلم ذلك، والله أعلم. وهذا تساهل، لأن فيها ما صرحوا بكونه ضعيفاً أو منكراً أو نحو ذلك من أوصاف الضعيف. وصرَّح (أبو داود) فيما قدمنا روايته عنه بانقسام ما في كتابه إلى صحيح وغيره، و(الترمذي) مصرِّح فيما في كتابه بالتمييز بين الصحيح والحسن. ثم إن من سمَّى الحسن صحيحاً لا ينكر أنه دون الصحيح المقدم المبين أولاً، فهذا إذا اختلاف في العبارة دون المعنى، والله أعلم.
|